لماذا تبخرت وعود الحدود المفتوحة والعملة الموحدة؟
بقلم: رضي الموسوي
بحلول الخامس والعشرين من شهر مايو الجاري، يكون مجلس التعاون لدول الخليج العربية قد أكمل أثنين وأربعين عاما على تأسيسه، وقّعت دوله الاعضاء على جملة من الاتفاقيات البينية أهمها الاتفاقية الامنية والاتفاقية الاقتصادية وتشكيل قوات درع الجزيرة كنواة لجيش خليجي لم تكتمل اركانه.
كما عاش المجلس خضات كبرى ومنعطفات سياسية واقتصادية واجتماعية قادت إلى معطيات برزت على شكل اصطفافات وحروب استنزفت خيرات بلدان المنطقة وعطلت عملية التنمية المستدامة وزادت من حالة التدخل الأجنبي وكدست الاسلحة المدفوعة الثمن من الميزانيات العامة لدول المجلس، وغصت مياه الخليج بالاساطيل الأجنبية والقواعد العسكرية..وتأجلت الوعود الوحدوية الكبرى.
لا يختلف إثنان على أن دول مجلس التعاون الخليجي هي أغنى الدول العربية وأكثرها ثروة واقتصادياتها هي الاقوى القادرة على إحداث الفرق عندما تضخ المليارات في مناطق معينة، وهي أكثر الأقاليم توليدا لفرص العمل بفضل الثروات الطبيعية الهائلة من النفط والغاز، حيث يشكل انتاجها أكثر من 20 بالمئة من الانتاج العالمي من النفط، فيما يشكل الاحتياطي المؤكد من النفط 34 بالمئة، ويشكل الغاز المنتج فيه نسبة 9 بالمئة من الانتاج العالمي و23 من الاحتياطي العالمي، وتشكل عائدات النفط ما يتراوح بين 80 إلى أكثر من 90 بالمئة من الموازنات العامة.
ويعتبر الدخل الفردي في دول المجلس من أعلى الدخول في العالم، حيث صنّف تقرير صادر عن البنك الدولي في يوليو 2022 الدول الست الاعضاء في مجلس التعاون الخليجي بأنها من الدول ذات الدخول الفردية المرتفعة بالنسبة للدول العربية، وهذا تصنيف ليس جديدا بل استمر لعدة عقود منذ الطفرة النفطية منتصف عقد سبعينات القرن الماضي، فيما صُنِف العراق وليبيا والأردن من الدول العربية ذات متوسط الدخل العالى، وادرج المغرب ومصر ولبنان وجزر القمر وموريتانيا وتونس والجزائر وجيبوتي والأراضي الفلسطينية المحتلة من ضمن الدول ذات متوسط الدخل الأدنى، وصنف سوريا واليمن والصومال والسودان من الدول ذات الدخل المنخفض، وهذا يعني أن قرابة 60 بالمئة من الدول العربية تعاني شعوبها من الدخول الفردية المتدنية وأوضاع اقتصادية متدهورة.
ورغم الحديث المتصاعد عن ازمة جديدة تلوح في الأفق على صعيد الاقتصاد العالمي واحتمال حدوث موجة من الانكماش قد تؤدي إلى كساد، إلا أن الوكالات المالية المتخصصة تؤكد متانة الوضع المالي لدول مجلس التعاون الخليجي في العام الجاري 2023 على الاقل، وقد أكدت وكالة موديز للتصنيفات الائتمانية نظرتها للجدارة الائتمانية السيادية لدول مجلس التعاون الخليجي "إيجابية في عام 2023، بدعم أسعار النفط المرتفعة التي تعزز الميزانيات الحكومية"، وفق مذكرة بحثية للوكالة أصدرتها منتصف يناير/كانون الثاني 2023، واشارت فيها إلى أن "مكاسب الإيرادات غير المتوقعة من أسعار النفط التي لا تزال مرتفعة ستسمح من خفض أعباء الديون وإعادة بناء الهوامش المالية الوقائية، مما يزيد من القدرة على التعامل مع الصدمات المستقبلية"، وفق الوكالة.
وحسب التقديرات، فأن متوسط اسعار النفط ستحوم حول 95 دولارًا للبرميل في العام الجاري، بأقل 5 دولارات من متوسط اسعار 2022 البالغة 100 دولار للبرميل، ومن المتوقع أن تحقق جميع حكومات دول مجلس التعاون الخليجي فوائض في موازنتها باستثناء البحرين.
وفي مجال تراكم الثروات الاحتياطية، تسجل أربع صناديق سيادية خليجية مجتمعة ما قيمته 2.5 تريليون دولار، متجاوزة الصندوق التقاعدي النرويجي (1.4 تريليون دولار) ومؤسسة الاستثمار الصينية (1.2 تريليون دولار)، وهذه الصناديق هي هيئة الاستثمار الكويتية (737 مليار دولار) وجهاز ابو ظبي للاستثمار (697 مليار دولار)، وصندوق الاستثمارات العامة السعودي (620 مليار دولار) وجهاز قطر للاستثمار (450 مليار دولار).
النفقات المتزايدة
مقابل كل هذه الثروات الفلكية، فأن هناك نفقات فلكية في أمكنة أخرى وهي الانفاق الأمني والعسكري. وتشير الاحصائيات المتعددة أن دول المجلس زادت من انفاقها على الجانب الامني والعسكري خلال العقود الأربعة الماضية اضطرادا مع زيادة العائدات النفطية وتلبية لضغوطات الدول الغربية. وتفيد التقارير بأن دول المجلس تمتلك قوة عسكرية فصّلّها موقع غلوبال فير يور الأمريكي كالتالي وفق احصائيات 2020:
- عدد الطائرات الحربية للجيوش الـ 6 تساوي 1862 طائرة، وأكثر من 2250 دبابة وأكثر من 24 ألف مدرعة.
- تمتلك الدول الست نحو 400 مدفع ذاتي الحركة، ولديها نحو 2100 مدفع ميداني و143 راجمة صواريخ.
- تمتلك أساطيل الدول الست 309 قطعة بحرية متنوعة.
- بلغ إجمالي الإنفاق الدفاعي للدول الست 155 مليار دولار سنويا.
كان بإمكان دول مجلس التعاون الخليجي العمل على تشكيل دولة الوحدة الخليجية، أو على الاقل الاتحاد الخليجي على غرار الاتحاد الاوروبي الذي تمكن من اطلاق عملته الموحدة (اليورو) التي تضم اليوم 19 دولة كانت تستخدم مختلف العملات والمعايير، لكنها قررت في يناير 1999 توحيد العملة لمواجهة تحديات العصر وخصوصا العولمة وتبعاتها. أما توحيد الجغرافيا فقد كانت منطقة تاشيرة "تشينغن" التي تشترك فيها 26 دولة أوروبية خطوة متقدمة على تعزيز واقع الاتحاد الأوروبي.
لكن هذا لم يحصل في دول مجلس التعاون الخليجي، الذي طرحت دوله أهداف كبرى منذ انطلاقته أهمها جواز السفر الموحد والعملة الموحدة. لقد فشلت دول المجلس في اصدار جواز موحد رغم أن هذه الدول تتشابه في الكثير من الصفات اهمها اللغة والدين والانتماء والاصول القبلية والعائلية، بخلاف دول الاتحاد الاوروبي التي تحمل كل واحدة لغة قائمة بذاتها ولا تشترك في التاريخ كما دول المجلس ، ولا في التقاليد حيث أن بينها ما صنع الحدادن ومع ذلك نجحت أوروبا في تحقيق الاتحاد، بينما فشلت دول مجلس التعاون من لجم تفجر الخلاف البيني آخره بين ثلاث دول خليجية وبين قطر في منتصف العام 2017. فقد قررت كل من السعودية والامارات والبحرين بالاضافة إلى مصر مقاطعة قطر وقطع العلاقات معها، الأمر الذي أكد على الفشل المؤسساتي للمجلس والغياب الكبير لمؤسسة الأمانة العامة التي تبخرت وغابت عن لعب أي دور يلجم تصاعد الخلاف بين الدوحة والعواصم الخليجية. ومع أن قمة العلا الخليجية التي انتظمت في السعودية في يناير /كانون الثاني 2021 وبادرت السعودية بوقف المقاطعة والحصار، إلا أن الأمر استغرق نحو ثلاث سنوات لترطيب الاجواء، نسبيا، بين البحرين وقطر، ويبدو أن هذا يحتاج الى المزيد من الوقت للخروج من عنق زجاجة الخلافات البينية التي تفتقد الاليات القادرة على معالجة الخلافات والأزمات التي يمكن أن تتفجر في أية لحظة إن لم توضع مصدات كبرى تمنع تفجر خلاف من طراز الذي حدث مع الدوحة.
المشاركة الغائبة
منذ تأسيسه، قدمت قوى المعارضة الخليجية توصيفا لمجلس التعاون الخليجي بأنه حلف أمني عسكري، أول مشاريعه كان التوقيع على الاتفاقية الأمنية، بينما كانت الحرب العراقية الايرانية، التي اندلعت في سبتمبر/ ايلول ،1980 تشعل الخليج وتدمر البنى التحتية في البلدين وتعطل التنمية في المنطقة. كانت المعارضة الخليجية تطرح مشروع الوحدة القائمة على المشاركة الشعبية في القرار الاقتصادي والسياسي، لكن شيئ من ذلك لم يحصل. وعندما أسدل الستار على الحرب بعد ثمان سنوات عجاف، تنفست الدول الخليجية الصعداء واعتقدت أن رحلة الاسترخاء قد بدأت، إلا ان هذا الظن فيه الكثير من الاثم، فقد اجتاح الجيش العراقي الكويت في أغسطس 1990، وأعادت شد العصب وتواجدت الأساطيل الأجنبية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية لتحدث النقلة النوعية على مستوى الوطن العربي، عندما قادت امريكا الجميع إلى مؤتمر مدريد الذي أسس لإتفاقيات مذلة مثل اتفاقيتي أوسلو ووادي عربة، لتاتي بعدها اتفاقيات أكثر إذلالا وصولا الى الاتفاقيات الابراهيمية بين الكيان الصهيوني وكل من البحرين والامارات.
لم يجرى الشروع في الالتزام والتوقيع على اتفاقيات ومعاهدات دولية ذات صلة بحقوق الإنسان والديمقراطية مثل الشرعة الدولية التي تقوم على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بل تم الهروب للإمام بتعيين هيئة استشارية لا حول لها ولا قوة بديلا عن السلطة التشريعية ذات الصلاحيات الكاملة التي من شأن تأسيسها وضع بلدان مجلس التعاون على سكة الديمقراطية واحترام حقوق الانسان والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار الاقتصادي والسياسي والتوزيع العادل للثروة. لم يجرى الانتباه لكل ذلك، ولا إلى الإتفاقية الاقتصادية الموحدة التي رغم تحقيق خطوات إيجابية إلا أنها غير كافية لمواجهة استحقاقات المرحلة، فلم تشرع دول المجلس في تنويع مصادر الدخل بعد 90 عاما على اكتشاف النفط، وبدلا من تحقيق الرفاه والازدهار ومكننة الاقتصاد وأتمتته ونقل التقنية، لجأت حكومات المنطقة لفرض المزيد من الضرائب والرسوم على المواطنين، بينما تتصاعد نسب البطالة بسبب السياسة العمالية التي تعتمد على العمالة الرخيصة من جنوب شرق آسيا. إن الاعتماد على العمالة الرخيصة قاد الى تحويل المواطنين في دول المجلس الى أقلية في بلدانهم. وإلى تشكيل الطابور الخامس الذي يهدد أمن واستقرار المجتمعات الخليجية.
بعد 42 عاما من إعلان قيام مجلس التعاون الخليجي، تغيرت معطيات كثيرة في الاقتصاد والسياسة وفي الديمغرافيا، لكن الاهداف الكبرى التي جاءت في ديباجات البيانات التاسيسية والاتفاقيات البينية لم تتحقق، ورغم الخضات بقت مواقف أصحاب القرار على ماهي عليه، في الوقت الذي يترسخ فيه مفهوم الأمن والاستقرار الاجتماعي والسلم الاهلي بأنه ينبع من الداخل الشعبي وليس من الحماية الأجنبية التي بدأت تتخلخل وتتضعضع وتجرى محاولات استبدال حماية بأخرى.
لقد تكسر حلم الوحدة الخليجية على صخرة الخلافات البينية والفشل في معالجتها وتطيير مؤسسة الامانة العامة وغرقها "في شبر ماي"، فلم يتحقق الاتحاد الخليجي الذي دعا له الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز نهاية 2011 وتغنى به الإعلام الرسمي.
لم يتحقق لأنه جاء في زمن الخضات الكبرى في المنطقة أعقبه إرتخاء وابتعاد عن الاهداف المرجوة، كما لم ينجز جواز السفر الخليجي ولا الحدود المفتوحة ولا العملة الموحدة لأنها ببساطة ليست من الأولويات.