"إنَّ الأفكار والمفاهيم والرؤى الإصلاحية التي طرحتها مجلة (صوت البحرين) على صفحاتها شكَّلت نبراسًا للأجيال اللاحقة من الشباب للكفاح من أجل استقلال البحرين، وعروبتها. وقد ألهمت نظام الحكم بضرورة التغيير والتوجُّه نحو الإصلاح السياسي الشامل وحتميَّته. ولكن هذا التغيير لم يتحقق بصورة فعلية إلاَّ في نهاية القرن العشرين تقريبًا، وتزامن ذلك مع عهد صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المعظَّم (1999-) الذي أرسى قواعد المشروع الإصلاحي، ووضع البلاد في مصاف الممالك الدستورية؛ وبذلك منح العملية السياسية مضمونًا جديدًا، لم يعد معه الإصلاح مجرَّد محاولات ترقيعية أو ديكور لتزيين صورة مملكة البحرين في العالم، بل أصبح تغييرًا جذريًا في الخطاب الإصلاحي السياسي".
بهذه العبارات اختتمت الدكتورة شرف محمدعلي المزعل بحثها بعنوان "الخطاب الإصلاحي للتنمية في البحرين من خلال مجلة «صوت البحرين» (1950-1954م)" وفيما يلي الحلقة السابعة للبحث:
ثالثًا: الأطر والإحالات المرجعية للخطاب الإصلاحي
لم تبرز مسألة «الحكم الصالح»، الناتج عن تطبيق مبادئ الإصلاح الحقيقي الشامل، سوى في السنة الأخيرة من صدور المجلة، وتحديدًا في سنة 1373ه. ويمكن تفسير ذلك بأن الفئات المُناصرة لحركة القوميين العرب في البحرين، والمتأثرة بأفكارها المناوئة للاستعمار، استشعرت الأخطار والتحدِّيات التي كانت تهدد ثورة 23 يوليو 1952 بعد مرور سنة عليها، ومراوحة الثورة بين الديمقراطية وإشراك الشعب في الحكم حينًا، والاستبداد والتفرُّد في اتخاذ القرار حينًا آخر. ولذا ارتأت هذه الفئات مصارحة جمهورها بجوهر الإصلاح الذي تنشده، وخصائص الحكم الذي يتولَّى تنفيذه.
ويمكن القول إنَّ الأجواء التي صاحبت المناقشات حول قضية الحكم الصالح، والحرية المُتاحة للمشاركين فيها، قد مهدَّت إلى رفع مجموعة من المطالب الشعبية تحت مُسمَّى «مطالبنا العادلة» إلى صاحب العظمة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة حكام البحرين وتوابعها، لكنها أدَّت في نهاية المطاف، وبسبب الصراحة والجرأة في انتقاد الأوضاع السياسية في تلك الفترة التاريخية العصيبة، إلى إغلاق المجلَّة.
وقد ورد في عرضٍ لمناظرة «أؤمن بالمُستبدِّ العادل» في العدد الثاني للمجلة للسنة الرابعة (1373ه، ص. 21)، أنَّ الحكم الاستبدادي نَقمة ونِعمة، فإذا كان الحاكم «ظالمًا فإنه يكون نَقمةً على أمته بما يهدر من حريَّات وحقوق»، أما إذا كان «عادلًا رحيمًا فإنه يكون نِعمةً على أمته؛ لأنه يدفعها سريعًا إلى القوة والاستقلال». لكن الحكم النيابي أفضل من الحكم الاستبدادي – حسب المجلة - لأنه ينهض على أربعة أركان، وهي: «جمهور من الناخبين الواعين، وانتخابات حرَّة نزيهة، وحكومة منبثقة عن الناخبين، ورأس دولة لا يتعدَّى حقوقه». وبتحليل محتوى المناظرة، يتبيَّن أن «الحكم الدكتاتوري العادل»، مُمثلًا في الزعيم مصطفى كامل، الذي خلَّص أمَّته من «الجهل والفقر والمرض، فأصبحت مَهيبةً بين الأمم»، هو «الحكم النيابي الصحيح» الذي يجب أن تسعى الشعوب العربية إلى تحقيقه.
غير أن هذه الأفكار لم تجد تأييدًا لدى البعض، فقد أشار فرسخ (1373ه) إلى أن المُستبدَّ العادل «يكفرُ بكل برنامجٍ لا يضعه بنفسه، ولا يؤمن بمحاسبة أحد له إلَّا نفسه»، ويستدل فرسخ على رأيه بالدولة الفاشية، إلَّا أنه يستدرك بالقول إن «الدكتاتور إنسان مثلنا يخطئ ويصيب»، فكم من حاكم، كنابليون وهتلر، «بدأ مخلصًا وانتهي مُجرمًا؛ وهذا طبيعي؛ فالسلطة المُطلقة مُفسدة مطلقة» (ص. 21). غير أن الواقع أظهر فشل دكتاتورية نابليون وموسوليني وهتلر، كما أن الشعب الذي لا يدرك أهدافه السياسية، يحتاج للبرلمان «لمُراقبة أداء الحكومة، وتفعيل الديمقراطية، واكتساب الوعي»، أما الشعب الواعي، كما بسويسرا أو إنجلترا، فإنه يحتاج إلى البرلمان والأحزاب ليعبر عن إرادته فقط، أما الروح المعنوية للشعب، فلا ضمان لها غير الحريَّة والديمقراطية.
إلَّا أن هذه الحجج، رغم وجاهتها ورصانتها، لم ترقَ لأحد كتاب المجلَّة، الذي علَّق قائلًا: «إنني أرحب بالمستبدِّ العادل الذي يقضي على الفتنة في مهدها قبل أن يعمَّ خطرها»، فالشريعة الإسلامية «تحاسب الحاكم المستبد إذا حاد عن العدل». وذكَّر بأن الدول الديمقراطية «تبادر إلى وأد نظمها النيابية عند إعلان الحرب، وتأخذ بنظام المُستبدِّ العادل» فتفرض الحكم العسكري، «وبأن النُظم الدكتاتورية سقطت بسبب الخصومات القائمة بينها وبين الدول المُعادية لها في الحرب»، ليجد الحلَّ في التمسُّك بنظام الشورى في الإسلام؛ ففيه تواصٍ على الخير.
ويردُّ عليه مرسي (1373ه) قائلًا إن ستالين لم ينتصر في الحرب العالمية الثانية؛ لأنه دكتاتور، ولم تُهزم فرنسا لأنها دولة ديمقراطية، «فلا يجوز أن يزن المرء العالم بميزان قوَّته العسكرية، فالعقل هو الميزان بالنسبة إلى الأفراد، ولا يمكن أن يعيش بدون حرية، كما أن الحضارة لا يمكن أن تتقوَّى أيضًا بغير حرية»، ولذا فإنه «يفضِّل الحكم الديمقراطي لشعبنا العربي الواعي المالك لإرادته والمُكافح في سبيل الحرية والرفاهية» (ص. 24).
وفي المقابل، يرى عربي أن الحكم النيابي قد فشل في البلاد العربية؛ لأنه لم يُطبَّق بشكلٍ صحيحٍ، فهذه الحكومات النيابية هي «حكومات مؤلَّفةً من حفنةٍ من الإقطاعيين والوصوليِّين الذين جاءوا إلى الحكم بمُساعدة المُستعمِر، ولبسوا ثوب الوطنية ليضلِّلوا الأمة بأن بلادهم مستقلة، وأن حكوماتهم وطنية حرّة». غير أن فتى الحيّ (1373ه) يعارضه ذاكرًا أنَّ «فشل الحكم النيابي سببُه وجود مركَّب النقص في أفراد الحكومة»، مُوضّحًا أنه لا يقرُّ إعطاء الحاكم سلطةً مطلقةً في ظروف الحكم؛ لأنها تبثُّ فيه روح الاستبداد والتحكُّم في الأمة، مُستشهدًا بقول الرئيس المصري السابق جمال عبدالناصر بأن «وضع الثقة العمياء في السلطان ممَّا يعلِّمه الاستبداد». ويؤكِّد الكاتب أن الدكتاتورية في ألمانيا وإيطاليا هي المسؤولة عن مصير شعوبها، وأن «شخصية المُستبدّ العادل أصبحت خرافة لا تُصدَّق»، وأنَّ المُستعمر لا يرتعد من الكلمة، ولا يخشى إلَّا من القوة (ص. 26).
وفي إطار مواكبتها للاحتجاجات الشعبية المُطالبة بالإصلاح، أطلقت مجلة «صوت البحرين» في يونيو 1954م تحذيرًا واضحًا من مغبَّة تفاقم الأوضاع، ودعت إلى «تفادي الخلافات الطائفية». ونادت بالاتحاد من أجل «إصلاح الأوضاع القائمة في البلاد»، وطرحت حزمةً من المطالب الشعبية بعنوان «مطالبنا العادلة»، وتتمثل هذه المطالب الإصلاحية في الآتي: «(1) سنِّ قانون للمحاكم مدني وجنائي وإطلاع الرأي العام عليه، (2) تأليف مجلس للمعارف من عشرة أعضاء؛ ستة ينتخبهم الشعب وأربعة تعيِّنهم السلطة التنفيذية؛ للإشراف على سير المعارف وتعيين المناهج والميزانية، (3) تأليف مجلس للصحة للإشراف على سير المستشفيات والصحة العامة، وتصحيح الأوضاع المقلوبة فيها، (4) تأسيس نقابة للعمال لحماية حقوقهم، (5) تأسيس مجلس استشاري من (14) عضوًا؛ عشرة ينتخبهم الشعب وأربعة تعيِّنهم السلطة التنفيذية». وأهابت المجلة بالمسؤولين أن «ينظروا في هذه المطالب بعين العناية وينفِّذوها».
ومع أن المطالب الشعبية المذكورة أعلاه قد قابلتها بعض الفئات بالشك وسوء الظن في حامليها، وفُسِّرت بأنها «مُوجَّهة ضد فرد أو جهة مسؤولة»، (سيف الدولة، 1373ه، ص. 3)، إلَّا أن الأحداث المواكبة لها، نجحت في تجسيد «الوحدة الوطنية بين أفراد الشعب، وإلحاحه في طلب العدالة والمساواة الفعلية أمام القانون»، وفي غمرة هذه الأجواء، «أصدر الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، حاكم البلاد، بيانه التاريخي بسنِّ قانون للبلاد، وجلْب قضاة أكفاء، وإعادة تنظيم المحاكم على أسس قانونية عادلة»، فكان لهذا القرار صدى إيجابي في المجتمع البحريني، لكنْ عاقل (1373ه، ب) ذكَّر الحكم بأن «الشعب ما يزال يتساءل عن مصير مطالبه الأساسية الأخرى» (ص. 18).
ويتبيَّن ممَّا سبق أن الأطر المرجعية التي استند عليها الخطاب الإصلاحي في تدعيم مقولاته ومفاهيمه تتمثل على الصعيد العربي في ثورة 23 يوليو 1952، التي شكل نجاحها إلهامًا أساسيًا للمطالبة بالحرية والمساواة والديمقراطية في البحرين. أما على الصعيد الدولي، فقد شكَّلت الثورة الفرنسية حافزًا لنشاط الجماعات الإصلاحية في جزيرة البحرين، بينما مثَّلت الأنظمة الدكتاتورية في ألمانيا وإيطاليا تحذيرًا من الأخطار المُحدقة بالبلاد في حالة عدم اتباع النهج الإصلاحي - التشاوري في التعامل مع المطالب الشعبية، ومثَّلت دولٌ على غرار هولندا والسويد نماذجَ ناجحةً للحكم النيابي.