بقلم : عبد النبي الشعلة
عندما وقعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني في العام 1922 وأخذ اليهود يفرّون من الاضطهاد الأوروبي وينزحون إلى فلسطين كمستوطنين بأعداد متزايدة ووتائر متصاعدة، بدأت محنة الشعب الفلسطيني الشقيق، وبدأ الصراع بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود في التفاقم، وتطور إلى مواجهات واشتباكات دامية راح ضحيتها الكثير من القتلى من الجانبين، لقد وجد الغرب في هجرة يهود أوروبا إلى فلسطين حلًّا لـ “المسألة اليهودية” التي كانوا يعانون منها وذلك على حساب حقوق الفلسطينيين المشروعة، وتحولت المسألة اليهودية إلى المسألة أو القضية الفلسطينية، التي لايزال الفلسطينيون أنفسهم والعرب معهم بل ودول العالم أجمع تحاول أن تجد حلًّا لها، وقد تدحرجت أو تراجعت الحلول التي تبناها الفلسطينيون والعرب من الدعوة إلى القضاء على إسرائيل وإلقاء المستوطنين اليهود في البحر واستعادة الفلسطينيين لأراضيهم كاملة من النهر إلى البحر، إلى القبول بـ «حل الدولتين» والاعتراف بإسرائيل ضمن حدود ما قبل حرب 1967 وأن يكتفي الفلسطينيون بما تبقى من أراضٍ لإقامة دولتهم المستقلة عليها، وهو تحوّل فرضه انتصار الأمر الواقع على الطموح والعواطف والحقوق، بل وعلى العدالة والشرعية.
إن بين العرب والفلسطينيين وبين حل الدولتين قصة مؤلمة؛ فإبّان الانتداب البريطاني لفلسطين واشتداد الصراع والمواجهات بين الفلسطينيين واليهود واندلاع «الثورة الفلسطينية الكبرى» أوفدت الحكومة البريطانية في العام 1937 لجنة برئاسة اللورد بيل Lord Peel سميت بـ «لجنة بيل» لتقصي الحقائق وإيجاد حل للمشكلة، وقد توصلت هذه اللجنة إلى قرار «حل الدولتين» بتقسيم فلسطين بين الفلسطينيين واليهود، وأعطت اليهود ما نسبته 33 % من أراضي فلسطين، وقد قبل اليهود بهذا الحل، إلا أن الفلسطينيين والعرب رفضوه بشدة، ولا شك أن دروس الأيام تقول لنا الآن: ليتكم قبلتم تلك القسمة!
وفي العام 1947 رفض الفلسطينيون والعرب أيضًا قرار الأمم المتحدة بـ «حل الدولتين» وتقسيم فلسطين بين اليهود والفلسطينيين بإعطاء اليهود 57.7 % من الأراضي الفلسطينية؛ أي أكبر من النسبة التي قررتها لجنة بيل، واليوم لا يمكن لنا أن نحلم بذلك الحل أو تلك القسمة؛ على رغم أنها كانت قسمة جائرة ضيزى.
لم يرفض اليهود قرار الأمم المتحدة، لكن العرب والفلسطينيين رفضوه، وعلى إثر ذلك نشبت حرب 1948 التي استولى اليهود في نهايتها على 78 % من الأراضي الفلسطينية، أي مساحة أكبر مما أقرّته لهم الأمم المتحدة، ومع مرور الأيام فرض الأمر الواقع نفسه وأصبحت الزيادة التي استولى عليها اليهود جزءًا من دولة إسرائيل التي أخذت دول العالم تعترف بها تباعًا، وأصبحت عضوًا في منظمة الأمم المتحدة مع ما استولت عليه من أراضٍ لم تقرّها المنظمة ذاتها، فالزمن، كما هو معروف، يكرّس الأمر الواقع ولا يحافظ على أسس الشرعية.
وفي العام 1965 أي قبل هزيمة حرب 67 بعامين فقط رفض العرب والفلسطينيون اقتراح الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، بالقبول بالأمر الواقع؛ بقبول حل الدولتين وإنهاء حالة العداء مع الإسرائيليين وعدم التمسك بالعواطف والأحلام، والاعتراف بإسرائيل ضمن الحدود التي أقرّتها الأمم المتحدة، فجُوْبِهَ الحبيب بالإدانة والمقاطعة والشجب والاستنكار من قبل الفلسطينيين والعرب، واتُهم بالجُبن والخيانة والعمالة، واليوم فإننا نترحّم عليه وندعو له بالجزاء الأوفر.
وفي حرب 1967 خسر الفلسطينيون والعرب ما تبقى من أرض فلسطين وأصبحت إسرائيل تحتل وتسيطر على 100 % من الأراضي الفلسطينية إلى جانب شبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان السورية؛ فصرنا، بعد فوات الأوان وما زلنا نطالب ونستجدي حل الدولتين، ولولا واقعية الرئيس الراحل أنور السادات وحكمته وشجاعته في اتخاذ القرارات الكبرى وقدرته على القراءة الصحيحة للواقع الدولي لظللنا ننادي بتحرير سيناء أيضًا ، وقد سعى السادات رحمه الله إلى تحقيق حل الدولتين، لكننا اتهمناه أيضًا بالعمالة والخيانة وقاطعناه وقاطعنا معه مصر قلب العروبة لسنوات عديدة، ونقلنا جامعتنا العربية العتيدة من القاهرة إلى تونس؛ عاصمة الرئيس بورقيبة نفسه؛ يا لها من مفارقات مضحكة!
نقول ذلك ونحن على إدراك تام بأن البعض منا، أو ربما الكثير منا، لا يزال يرفض حل الدولتين ويطالب بإعادة كامل الأراضي الفلسطينية، من البحر إلى النهر إلى الفلسطينيين وحدهم، ولا غرو أو غرابة في ذلك، فالكل له الحق في أن يحلم أو يتوهّم.
واليوم وبعد مرور أكثر من نصف قرن من سيطرة إسرائيل على كامل الأراضي الفلسطينية، وبعد أن شيدت شبكة كثيفة واسعة من المستوطنات في الضفة الغربية التي احتلتها في حرب 67، وغيّرت ديموغرافيتها ومعالمها، وتستمر في مضاعفة أعداد المستوطنين الذين يسكنونها وينتشرون في كل أرجائها بحيث صار اجتثاثهم منها أمرًا في غاية الاستحالة، إضافة إلى أن إسرائيل لم تعد تخشى من إجبارها على الانسحاب بالقوة من الأراضي التي احتلتها في حرب 67؛ فالعرب والفلسطينيون في حالة يُرثى لها من الضياع والتشرذم، وقد أبرمت مع جيرانها العرب معاهدات سلام ملزمة وأصبحت تتمتع باعتراف ضمني من غالبية الدول العربية واعتراف معلن من عدد ليس قليلًا منها بما في ذلك الفلسطينيون أنفسهم.
وعلى ضوء كل ذلك؛ فإن الأمر الواقع الذي ترسخ جغرافيًّا وسياسيًّا أصبح يؤكد فشل الطرح الداعي إلى دولتين لشعبين، وأن هذا الحل قد لفظ أنفاسه الأخيرة على أيدي الحكومات الإسرائيلية المتشددة بقيادة نتنياهو، وأن التمسك به هو تمسك بالأوهام، وباختصار، فإن حل الدولتين لم يعد متاحًا أو ممكنًا الآن، مع أن هذا الحل لا يعطي الفلسطينيين سوى 22 % فقط من أرض فلسطين، وفيما عدا الكثافة السكانية، فإن هذه الرقعة أصبحت تفتقد أبسط مقومات الدولة.
إذن، الخيار الوحيد الباقي أو الفرصة الباقية هو حل «الدولة الواحدة» التي تجمع الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي تحت نظام ديمقراطي وعلى أرض واحدة وبهويتين مستقلتين، وهو مشروع قديم طرحه في البداية (في العام 1943) حزب «راكاح» الشيوعي الذي كان يضم في عضويته نُخبًا من اليهود والفلسطينيين، والداعي «لبناء دولة ديمقراطية واحدة موحّدة على كامل أرض فلسطين التاريخية».
وبعد حرب 67 تبنت فكرة «الدولة الواحدة» حركات فلسطينية سياسية، منها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وفي الوقت نفسه قدّمت حركة فتح أجندة بعنوان «الدولة الديمقراطية العلمانية».
وفي العام 2000 أصدر الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي كتاباً بعنوان «الكتاب الأبيض» تضمن تصوراته لحل الصراع العربي الإسرائيلي بدمج الشعبين في دولة واحدة ديمقراطية واقترح أن تسمى «دولة إسراطين»، فاستهجنا هذا الطرح واعتبرناه دليلًا آخر على جنون وجنوح وشطط معمر القذافي.
إن حل الدولة الواحدة أصبح هو الحل الوحيد الممكن نظرًا للأمر الواقع القائم على الأرض.
ومع إن إسرائيل تعمل على تسهيل تحقيق هذا الحل بالاستمرار في استيطان وضم مزيد من الأراضي الفلسطينية، إلا إن هذا الحل هو الأصعب بالنسبة لها وسوف ترفضه؛ لأنه سيقضي على فكرة قيام دولة يهودية وسيُنهي الإيديولوجية الصهيونية، لكن رفضها لحل تتساوى فيه للجميع الحقوق والواجبات سيضعها في موقف حرج أمام المجتمع الدولي برمّته، وسيفقدها ما تتمتع به من دعم وتعاطف من الكثير من دول وشعوب العالم، فهذا الحل، في حالة طرحه بجدّية سيفرضه الأمر الواقع وتُمليه المعطيات والظروف الراهنة.