بقلم : عبد النبي الشعلة
أحيي كل الذين يقرأون ويتابعون مقالاتي على مختلف المنصات، التقليدية منها والرقمية، وأقدر لهم وأشكرهم على اهتمامهم واستفساراتهم عن سبب توقفي عن الكتابة خلال الأسابيع القليلة الماضية التي أمضيتها في أوروبا؛ لقضاء العطلة الصيفية، وللتزود بالمزيد من المعلومات، وللقراءة والتدوين والاطلاع على جوانب من وجهات نظر الرأي العام هناك من خلال عدد من المعارف والأصدقاء والفعاليات إلى جانب وسائل الإعلام المتعددة.
إن الرأي العام في أوروبا ما يزال بالطبع مشغولًا ومهمومًا بالحرب الأوكرانية وتداعياتها، وارتفاع تكلفة المعيشة، والتحديات الاقتصادية والأمنية والبيئية، وغيرها من القضايا الجوهرية التي تمس صميم مصالحهم، إلا أنني لاحظت التغير الواضح في موقف الرأي العام الأوروبي تجاه الشعوب والدول العربية الخليجية، فلم نعد نسمع الآن، على سبيل المثال، أي تذمر أو تأفف من التدفق السياحي للخليجيين على هذه الدول خلال أشهر فصل الصيف، بل تحول ذلك إلى تثمين مساهماتهم في إثراء المشهد الحضاري والوضع الاقتصادي لهذه الدول، وإلى إدراك أهمية هذا التدفق الذي يدر البلايين من الدولارات في خزائن هذه الدول، ويؤدي بالنتيجة إلى المساهمة في خلق المزيد من فرص العمل فيها، وقد انعكس هذا الموقف على المستوى الرسمي بقيام عدد من هذه الدول بإلغاء الحاجة إلى تأشيرات الدخول أو تخفيف إجراءات الحصول عليها بالنسبة لمواطني الدول العربية الخليجية.
إن نظرة المهتمين والمعنيين والمثقفين في هذه الدول صارت أكثر تعاطفًا وتفهمًا وإيجابية تجاه الدول العربية الخليجية وقضاياها، وأصبحوا مقتنعين بأن هذه الدول كانت مستهدفة وعرضة للابتزاز، وهي بعيدة وبريئة من تهم التسلط والتطرف والعنف والإرهاب، بل إنها كانت من أبرز ضحاياها، ويرون أن هذه الدول قد نجحت في تخطي واقع المراحل السالفة والتغلب على تحدياتها ومعوقاتها وتداعياتها، كما تمكنت من التخلص من عناصر ومراكز الرجعية والتخلف مع الاحتفاظ بموروثاتها ومرتكزاتها الحضارية والروحية.
ويستطيع أي مراقب أن يستشف أن الرأي العام في أوروبا أصبح يرى أن الدول العربية الخليجية أخذت تنتقل بالفعل وبسرعة محسوسة إلى مرحلة الازدهار الاقتصادي والانفتاح والإنجاز والمزيد من البناء والمساهمة الفعالة في ركب تقدم الإنسانية؛ ولذلك فقد أصبحت الشعوب الأوروبية وغيرها من الشعوب تنظر إلى الدول العربية الخليجية وتعتبرها وجهات مفضلة للسياحة وللعمل والاستثمار والعيش فيها، وأن الكثير منهم يجدونها أكثر أمانًا واستقرارًا من دولهم ويتمنون أن تتاح لهم فرصة العمل والإقامة فيها.
إن الدول العربية الخليجية تحولت إلى مراكز جذب واستقطاب للأموال والاستثمارات والأدمغة والكفاءات الأوروبية وغيرها، وعلى سبيل المثال أيضًا، فقد أكدت دراسة حديثة نشرت في لندن الشهر الماضي على موقع “يورو ريبورتر” أن أفضل العقول البريطانية التجارية أخذت تتجه إلى الدول العربية الخليجية وخصوصًا إلى دبي.
وكشفت الدراسة ذاتها أنه خلال الفترة من 2017 إلى 2022، فقدت بريطانيا نحو 12500 من الأفراد ذوي الثروات العالية، توجه معظمهم للإقامة في الدول العربية الخليجية، ومن المتوقع أن يحذو حذوهم 3200 مليونير آخرين في العام 2023.
إن الانفتاح والانطلاق التنموي اللَّذين تشهدهما المملكة العربية السعودية إلى جانب المشاريع التنموية العملاقة التي تشيد في مختلف الدول العربية الخليجية هي حديث الدوائر والمنتديات والصالونات الاقتصادية والاستثمارية في كافة دول العالم، وعلى رأسها دول المجموعة الأوروبية والولايات المتحدة وغيرها من الدول، ونتيجة لهذا الانطلاق التنموي، فقد صارت الدول العربية الخليجية تستقطب أفضل المهارات والكفاءات التخصصية والإدارية والتخطيطية والهندسية وغيرها من تلك الدول.
إن الشعوب الأوروبية وبقية شعوب العالم ترى بكل وضوح القيمة والوزن الحقيقي للدول العربية الخليجية وموقعها المتميز على الخارطة الاقتصادية الكونية، فقد جاءت هذه الدول في العام 2022 في مقدمة الدول الأكثر نموًا في العالم، فتربعت المملكة العربية السعودية على رأس دول العالم بنسبة نمو بلغت 8.7 %، كما بلغت نسبة النمو في الكويت 8.2 %، وفي دولة الإمارات العربية المتحدة 7.4 % في العام نفسه، ولعدة أسباب لسنا بصدد التطرق إليها في هذه الوقفة القصيرة، فإن الدول العربية الخليجية ستظل تتمتع بنسب نمو عالية خلال السنوات العشر القادمة؛ وستشهد هذه الدول واحدة من أكثر وأكبر التدفقات المالية في تاريخ البشرية، وهذه التدفقات ستدعم بدورها الثقل السياسي، وستعزز المكانة الاقتصادية لهذه الدول على المستوى العالمي، كما أنها ستضاعف القوة المالية لأذرع وصناديق الثروة السيادية فيها، والمعروف أن رصيد الصناديق الأربعة الأكبر للثروة السيادية في هذه الدول، وهي الصندوق السعودي للاستثمارات العامة، وجهاز أبوظبي للاستثمار، والهيئة العامة للاستثمارات الكويتية، وصندوق الاستثمار القطري يقدر اليوم بحوالي 3 ترليونات دولار، بزيادة بلغت نسبتها 42 % خلال العامين الماضيين، وفي هذا السياق، فإن التوقعات المتزنة تشير إلى أن رصيد الصندوق السعودي للاستثمارات العامة وحده سيبلغ 2 تريليون دولار بحلول العام 2030 ما سيجعل هذا الصندوق الأغنى والأكبر في العالم.
من ناحية أخرى، فإن الرأي العام في أوروبا ينظر باهتمام بالغ إلى التحول الاستراتيجي العميق في السياسة الخارجية للدول العربية الخليجية التي أصبحت تركز بشكل أعمق على رعاية وتحقيق مصالحها والالتزام بقيم التعاون مع الجميع وحل الخلافات بين الدول بالطرق السلمية، وقد انعكست هذه السياسة في توثيق علاقات هذه الدول على مختلف الأصعدة مع الصين وروسيا مع الاحتفاظ بعلاقاتها الوثيقة وتعزيزها مع حلفائها التقليديين الولايات المتحدة ودول المعسكر الغربي، ومن أبرز أوجه هذا التحول التخلي عن سياسة المواجهة مع إسرائيل والتوجه إلى تطبيع علاقاتها معها.
وإلى جانب التحول الاستراتيجي السياسي وازدياد الثقل الاقتصادي للدول العربية الخليجية، فإن الوجه الحضاري لهذه الدول أصبح أكثر إشراقًا من منظور الرأي العام الأوروبي كما شاهدته خلال الأسابيع الأخيرة التي قضيتها في أوروبا، وقد تجلى هذا المنظور في تقدير وانبهار الرأي العام الأوروبي بما وصفه البعض بـ “الانتفاضة الرياضية الخليجية” التي تمثلت في استضافة عدد من الدورات الرياضية العالمية الكبرى وشراء الأندية واستقطاب ألمع نجوم الرياضة، وبشكل عام توجيه وتوسيع الاهتمام والمشاركة والاستثمار في مختلف الأوجه والنشاطات والميادين الرياضية على الساحة الدولية بما يؤدي إلى تطوير مساحات التنافس الإبداعي بين دول وشعوب العالم وخلق مجتمعات صحية واعية ومتحلية بما يعرف بالروح الرياضية، وفي هذا الاتجاه وفي الوقت نفسه، فقد أثبتت الدول العربية الخليجية جسارتها وبراعتها في الاستثمار في صناعة المال الرياضي، وهي صناعة حققت إيرادات وصلت إلى نحو 500 مليار دولار على المستوى العالمي في العام الماضي وفقا للأبحاث التي أجرتها مؤسسة statista المتخصصة بالإحصاءات، والتي أكدت أن الاستثمار في المجال الرياضي أصبح من أكثر مصادر الربح في العالم.