بقلم : عبد النبي الشعلة
منذ أن أطلقت حركة حماس “طوفان الأقصى” في داخل الأراضي الإسرائيلية في السابع من شهر أكتوبر الماضي؛ وعلى ضوء ما تعرض ويتعرض له الأشقاء الفلسطينيون في غزة وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلة نتيجة لذلك من مجازر وجرائم حرب وحشية، وتصفيات جماعية وانتهاكات وتجاوزات لأبسط حقوق الإنسان والقوانين الدولية على يد المحتلين الإسرائيليين، فقد انقسم الرأي العام العربي والخليجي إلى قسمين؛ الأول يرى أن نهاية دولة إسرائيل قد حانت وأزفت، ويدعو الدول العربية والخليجية إلى وقف اتصالاتها وتعاونها وخططها الرامية إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل؛ وبشكل خاص يدعو الدول العربية الخليجية التي طبعت وأقامت علاقات دبلوماسية معها إلى قطع هذه العلاقات وسحب سفرائها من تل أبيب.
أما الرأي الثاني فيرى خلاف ذلك انسجامًا مع واقع العلاقات الدولية، بعد أن حصلت إسرائيل بعد قيامها على مكاسب استراتيجية عميقة يصعب الآن انتزاعها؛ من أبرزها اعتراف المجتمع الدولي بحقها في البقاء والوجود كإحدى دول المنطقة ضمن حدود ما قبل يونيو 1967.
ويدعو حملة هذا الرأي إلى الإبقاء على هذه العلاقات والاتصالات وتسخيرها كجسور للعبور والتواصل لصالح القضية الفلسطينية، كما تفعل مصر الآن، واستثمار هذه العلاقات لدعم الجهود المبذولة لوقف إطلاق النار وتحقيق حقوق الشعب الفلسطيني، إلى جانب أن الاعتبارات التي جعلت هذه الدول تتعاون وتؤسس اتصالات وعلاقات مع إسرائيل لا تزال قائمة.
وقبل أن نحاول التعليق على هذين الرأيين أو الموقفين، دعونا نستعرض باختصار شديد جوانب من قصة التطبيع والاتصالات والعلاقات الخليجية مع إسرائيل من بدايتها.
فعندما حلت النكبة الفلسطينية الكبرى وأعلن عن انهزام الدول العربية عسكريا وقيام دولة إسرائيل في العام 1948، كانت خمس من إمارات أو دول مجلس التعاون الست واقعة تحت السيطرة الاستعمارية البريطانية أو تحت النفوذ البريطاني، حيث كانت بريطانيا تتحكم في علاقات هذه الدول واتصالاتها الخارجية، وعلى هذا الأساس لم يتم أي لقاء أو اتصال بين أي من قادة هذه الدول وإسرائيل منذ قيامها وعلى مدى سنوات السيطرة البريطانية التي انتهت في العام 1961 بالنسبة للكويت، وفي العام 1971 بالنسبة للبحرين وقطر وعمان ودولة الإمارات العربية المتحدة.
وكان موقف الشقيقة الكبرى، المملكة العربية السعودية، واضحا صريحا منذ البداية وقبل الإعلان عن قيام دولة إسرائيل؛ عبر عنه والتزم به الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه، الذي رفض رفضا قاطعا الاعتراف بإسرائيل أو التفريط في أي من حقوق الشعب الفلسطيني أو إجراء أي لقاء أو اتصال مع أي من القادة أو المسؤولين الإسرائيليين، على الرغم من الحوافز والمغريات التي عرضت عليه، وقد أرسى هذا الموقف الحازم الأساس للسياسات التي اتّبعها خلَفه من الملوك السعوديين إلى جانب قادة باقي دول المجلس بعد استقلالها وانضمامها إلى الأسرة الدولية، وظل هذا الموقف راسخا ثابتا، على الرغم مما أعلن أو أشيع عن قيام قادة دول عربية أخرى بإجراء لقاءات واتصالات، مباشرة وغير مباشرة، مع قادة ومسؤولين إسرائيليين.
ولم تتردد الدول العربية الخليجية عن تقديم كل أشكال الدعم والإسناد الاستراتيجي والمعنوي والسياسي والمادي للفلسطينيين وللدول المواجهة لإسرائيل في كل مراحل ومنعطفات الصراع العربي الإسرائيلي؛ كان أبرزها وقفة هذه الدول وهبتها بقيادة الملك فيصل بن عبدالعزيز طيب الله ثراه لتقديم الدعم الكامل والسخي لدول المواجهة بعد حرب 1967 وحرب 1973 بما في ذلك مواجهة الدول المساندة لإسرائيل وإيقاف تدفق النفط إلى تلك الدول وتحمل ما تؤدي إليه هذه الخطوة من تبعات ومحاذير ومخاطر.
ومع احترامنا وتقديرنا لأي رأي مخالف، فإننا نرى أن حرب أكتوبر 1973 كانت آخر المحاولات التي أكدت للعرب صعوبة بل استحالة تحقيق انتصار كامل ساحق ضد إسرائيل وحلفائها؛ ناهيك عن القضاء عليها وتحرير كامل الأراضي الفلسطينية من النهر إلى البحر، فالذي يقف في المواجهة ليس إسرائيل أو الكيان الصهيوني وحده، بل صفوة القوى العالمية الكبرى تتقدمها الولايات المتحدة الأميركية؛ صفوة تربطها بإسرائيل منظومة متكاملة من التحالفات والمصالح والعوامل التاريخية وحتى الدينية.
ومنذ إقامة دولة إسرائيل، أو سمها إن شئت الكيان الصهيوني، في العام 1948، فقد كانت نتيجة كل المواجهات المسلحة معها محبطة وكارثية بالنسبة للدول العربية المجاورة لها بشكل خاص. وكان الشعب الفلسطيني أكثر الخاسرين والمتضررين من تلك المواجهات، كما كانت مصر أكبر المضحين بالأرواح والعتاد والأموال والأراضي وأكبر المتحملين للآلام والأعباء السياسية والاقتصادية التي نتجت عن تلك المواجهات والنكبات، ولم يكن حال الأردن وسوريا أفضل من ذلك أو يختلف عنه كثيرًا.
ولم يكن للفلسطينيين دور أو يد في قرار شن حرب يونيو 1967؛ التي كانت أكثر تلك المنازلات والحروب مرارة وتدميرًا وقسوة؛ حيث تمكنت إسرائيل فيها من إلحاق هزيمة ماحقة بجيوش نظامية لثلاث دول عربية مجتمعة والاستيلاء منها على أراضي تفوق ثلاثة أضعاف مساحتها خلال ستة أيام فقط، وهو حدث لم يشهد له التاريخ مثيلًا من قبل.
وكما يمكن للمنطق أن يسود على العاطفة، وللواقع أن يفرض نفسه على الطموح وحتى على العدالة والحق المشروع، وكما لكل شيء حده وحدوده ومداه؛ فقد بلغ السيل الزبى، وكادت أن تتحطم اقتصادات الدول المواجهة لإسرائيل وتخور قواها وسواعدها، ما اضطر مصر والأردن إلى عقد اتفاق سلام ملزم مع إسرائيل ينهي حالة العداء والحروب والمواجهات معها، ويوقف الاقتتال والنزيف وقوافل الشهداء والقتلى ويعيد أراضي مصر إليها ويضمن سيادة الأردن وسلامة أراضيه.
ولكن، إذا كانت لدى مصر والأردن، بصفتهما دولتي مواجهة، ما يكفي من الحجج أو الأسباب أو الذرائع التي دعتهما إلى توقيع اتفاقيات سلام، وتطبيع علاقاتهما، وتبادل التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل كما ذكرنا، فما الذي دعا الدول العربية الخليجية إلى إنهاء العداء مع إسرائيل ودعا مملكة البحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة إلى لاعتراف بها وتطبيع العلاقات معها؟
الجواب باختصار، وبكل وضوح، هو أن الأسباب والدوافع أمنية؛ وبصراحة فإن اللوم أو الفضل لقيام دول المجلس أو بعض منها بالاتصال والتواصل والتعاون مع إسرائيل واضطرارها إلى إقامة علاقات دبلوماسية معها يعود في الأساس إلى سياسات النظام الحاكم في إيران، الذي هدد فور نجاح ثورته بتصديرها للدول العربية المجاورة، وأخذ يستعرض قدراته العسكرية والنووية، ويفصح عن طموحاته وأطماعه التوسعية في المنطقة التي قام بالفعل بتنفيذها إلى أن صار له أذرع ضاربة ومليشيات مسلحة في عدد من هذه الدول ما مكنه في وقت قياسي من النجاح في مد نفوذه وتواجده إلى أربع عواصم عربية عريقة، وصار يتفاخر ويتباهى بوجوده وسيطرته على بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء إلى جانب أهم منفذين بحريين هما مضيق هرمز وباب المندب، مشكلاً بذلك كماشة أو طوقًا عسكريًا خانقًا يلتف حول مفاصل وأعناق الدول الخليجية.
وللمزيد من التوضيح وقليل من التفصيل، فإنه بعد انهيار النظام الملكي في إيران في العام 1978 تحت وطأة الثورة الإسلامية فيها وتسلم الإمام الخميني زمام السلطة رسميا في العام 1979 الذي تبنت حكومته شعار “تصدير الثورة”، فقد نشبت بالنتيجة الحرب العراقية الإيرانية في العام 1980؛ التي هزت قواعد وأسس الأمن والاستقرار في منطقة الخليج العربي.
وأحس قادة الدول العربية الخليجية بالأخطار والتهديدات الأمنية المحدقة بسيادة وهوية ومستقبل بلدانهم؛ فسارعوا في العام التالي 1981 لتوحيد جهودهم بتأسيس منظومة “مجلس التعاون لدول الخليج العربية” والبحث عن وسائل أخرى للتصدي لهذه الأخطار والتهديدات.
وللحديث بقية غدًا