DELMON POST LOGO

الدولة العميقة في مواجهة ترامب

بقلم : عبد النبي الشعلة
يوم الخميس الماضي عاد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى نيويورك مرة أخرى؛ للدفاع عن نفسه في إطار محاكمة مدنية أمام الادعاء العام الذي يطالبه بدفع 250 مليون دولار غرامة عن تلاعب واحتيالات ضريبية ومالية ارتكبها من خلال “مجموعة ترامب” التي يملكها، والتي تضم فنادق فخمة ونوادي غولف وعقارات أخرى، وجاءت هذه المحاكمة بعد أسبوع من توجيه اتهامات جنائية ضده في قضية اتهم فيها بالتحايل عمدًا ومخالفة القانون في شأن تسجيل 130 ألف دولار بشكل غير قانوني عندما دفعها قبل انتخابات 2016 الرئاسية؛ طلباً لصمت ممثلة الأفلام الإباحية ستورمي دانيالز عن علاقة جنسية سابقة كانت تدعيها ونفاها ترمب مراراً، هذا إلى جانب اتهامات أخرى وجهت إليه، وشملت سوء التعامل مع السجلات الحكومية، ودوره في أحداث 6 يناير 2021، وقد أصبح ترامب أول رئيس أميركي سابق أو في المنصب يوجه إليه اتهام بارتكاب جناية.
ترامب أصبح الآن محاصرا من قِبل مراكز وقوى ما يعرف بـ “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة، وقد كان مستهدفا منها منذ أن رشح نفسه لانتخابات 2016 ونجح فيها.
إن “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة كتلة صلبة مترابطة وآلة ضخمة لا يمكن مواجهتها، وهي تتكون من المؤسسات التحتية العميقة مثل السلطات السياسية، البنتاغون، أجهزة الاستخبارات، البنوك والمؤسسات المالية والمصرفية، شارع وول ستريت، صناعة الأسلحة، الشركات النفطية، مراكز الدراسات والبحوث، الصحافة ومختلف وسائل الإعلام، السينما وصُناع الترفيه ونجوم وسائل التواصل الاجتماعي، وغيرهم، وعندما يشذ أي رئيس عن مراعاة مصالح هذه الشبكة أو أي منها تتم محاصرته وإزاحته أو تصفيته.
الدولة العميقة في الولايات المتحدة هي التي تصنع وتنصب القادة والرؤساء، وهي لا تقبل أو تتقبل شخصا طارئا عليها، لم يخرج من تحت عباءتها، ولا يفهم أو يراعي مصالحها مثل دونالد ترامب، رجل أعمال ومطور عقاري ناجح جاء من خارج منظومة الدولة العميقة وخرج من صفوف أو سلالة الأميركان المؤسسين الفاتحين الأوائل من المكون الأبيض أو العرق الأنجلو سكسوني، من المزارعين ورعاة البقر، وهو غاضب للحالة التي وصلت إليها الولايات المتحدة، فلم تتقبله الدولة العميقة ووجدته طارئا دخيلًا سيعرض مصالحها للخطر، وبدأت في التصدي له وبدأ هو في مواجهتها في معركة محسومة النتائج وصلت الآن إلى مرحلة تكسير العظام.
ترامب دخل في مواجهة مع مختلف مكونات الدولة العميقة بما في ذلك جهاز الإعلام الأميركي الرهيب، وقد طرد مندوب محطة الـ “سي إن إن” العملاقة في أول لقاء صحافي يعقده بعد توليه السلطة.
وتعد صناعة الأسلحة من بين أقوى مكونات الدولة العميقة في الولايات المتحدة، وهي من أكبر المساهمين والمتبرعين الممولين للحملات الانتخابية للأحزاب والرؤساء، وقد أعلن ترامب بعد انتخابه أنه لن يشعل حربًا جديدة وسينسحب من أفغانستان، وبالفعل لم يشعل ترامب حربًا جديدة خلال فترة رئاسته، ووقع في الدوحة مع طالبان على اتفاقية الانسحاب من أفغانستان، وقد سقط في الانتخابات الرئاسية لعام 2020 أمام منافسه الديمقراطي جو بايدن.
والصناعة العسكرية في الولايات المتحدة لم تستفد من أزمة الصواريخ الكوبية التي نشبت في العام 1962، فلم يستغلها الرئيس جون كندي لإشعال حرب مع الاتحاد السوفيتي، وبالتالي تحريك آلة الإنتاج الحربي، وتمكن من حل الأزمة سلميا، فتمت تصفيته. وجاء خلفًا له الرئيس لندن جونسون الذي ضاعف الالتزامات الأميركية في حرب فيتنام.
وفي عهد بايدن اشتعلت الحرب الأوكرانية، وأخذت الأسلحة الأميركية بعشرات المليارات من الدولارات تتدفق على ساحات المعارك فيها. إن مؤسسات المجمع الصناعي العسكري تنتعش عندما تنشب الحروب، وتنتج نتيجة لذلك فرص عمل جديدة، هذا المجمع يريد أن تدخل أميركا في حرب كل عشر سنوات على أبعد تقدير؛ حتى يتمكن من بيع الأسلحة المكدسة عنده وينتج أسلحة جديدة يتم بيعها وتجربتها على حساب الملايين من أرواح البشر.
ترامب سيظل يواجه المزيد من التحديات والصعوبات التي ستزداد كلما اقترب موعد الانتخابات في شهر نوفمبر من العام القادم؛ لينال عقابه وليكون عبرة لمن يحاول أن يتحدى الدولة العميقة في الولايات المتحدة، إلا إذا أعلن عن قراره الانسحاب من المنافسة أو تمت تصفيته أو تحطيمه، لكنه حتى الآن يصر ويتعهد لمؤيديه بأنه “سيفكك الدولة العميقة ويعيد الحكم إلى الشعب”، وقال لهم “سأمحو الدولة العميقة تماما… سأطرد البيروقراطيين غير المنتخبين وقوى الظل، المرضى، إنهم أناس مرضى”.
هذا المشهد يجب ألا يجعلنا نظن أن مفهوم أو مصطلح “الدولة العميقة” له مدلول سلبي سيئ، أو أن وجود مؤسسات وقوى “الدولة العميقة” ضمن إطار الكيان السياسي للدول يعد أمرا مشينا أو شاذا أو معيبا، فالواقع هو عكس ذلك تمامًا، ووجود الدولة العميقة ضمن الكيان السياسي للدول يشكل حالة طبيعية وضرورية، ويعتبر من أهم مظاهر ومتطلبات دولة المؤسسات وتماسكها.
إن قوى وعناصر الدولة العميقة هي في العادة مؤسسات أو جهات متعايشة تعمل على استقرار الدولة لحماية شبكة مصالحها، سواء كانت تلك المصالح مشروعة أو غير مشروعة، كما تعمل على ضمان سياسة الدولة من الشطط والانجراف والانحراف والهوان.
في دولنا العربية الخليجية تعتبر “بيوت الحكم” ذاتها أحد أقوى مكونات وحصون الدولة العميقة، فترى هذه البيوت تتحرك للتصحيح عندما يحدث أي تراخٍ أو انحراف أو شطط من جانب الحاكم، حدث ذلك في عدد من المرات في تاريخها الحديث، منها في سلطنة عمان عندما أزيح السلطان سعيد بن تيمور وأسند زمام الحكم لابنه السلطان قابوس ليقود عملية الإصلاح والتنمية والتطوير والاستعداد؛ لدخول سلطنة عمان القرن الحادي والعشرين، وحدث الشيء ذاته وللسبب والغرض ذاتهما عندما أزاح آل نهيان الشيخ شخبوط بن سلطان عن الحكم في إمارة أبوظبي ليتولى الحكم مكانه أخوه الشيخ زايد بن سلطان وليقود بعد فترة قصيرة تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة.
وبموجب نظام الحكم الوراثي، فإن الحكام في الدول العربية الخليجية ليسوا دخلاء على مراكز السلطة أو طارئين على منظومة الدولة العميقة، بل هم من صميم نتاجها.
وإلى جانب بيوت الحكم تتكون قوى وعناصر الدولة العميقة في الدول العربية الخليجية من المؤسسات العسكرية وشيوخ القبائل ورؤوس العوائل الثرية والعريقة ووجوه المجتمع والبيوتات التجارية ورجال الدين، مع تنامٍ ملحوظ لدور مؤسسات المجتمع المدني.
ومنذ فجر الدولة الإسلامية، فقد استشعر المفكرون المسلمون الأوائل هذا النمط من الترابط والتفاعل في العلاقات بين مكونات الحراك المجتمعي في مواقع النفوذ والسلطة، فاستنبطوا مفهوم أو مصطلح “أهل الحل والعقد”، وهي شبكة من مراكز القوة في الدولة الإسلامية العميقة من ذوي الشأن والجاه والعلم والورع الذين يرجع الناس إليهم في الحاجات والمصالح.
ونعود إلى الدولة العميقة في الولايات المتحدة التي ستستمر في إرهاق الرئيس ترامب وعرقلة إمكانية ترشيحه لانتخابات الرئاسة المقبلة، وفي حالة ترشيحه، فإنها ستبذل كل جهد ممكن؛ لضمان فشله وخسارته.