بقلم : عبد النبي الشعلة
إضافة إلى ما ذكرناه أمس، فقد جاء اعتراف مصر بإسرائيل وتوقيع اتفاقية سلام معها في العام 1978، وهو العام الذي نشبت فيه الثورة الإسلامية في إيران، ثم جلوس القادة الفلسطينيين مع نظرائهم من القادة الإسرائيليين في مباحثات سرية دامت لسنوات عدة، وأدت في النهاية إلى اعترافهم بها والتوصل والتوقيع على “اتفاق أوسلو” في العام 1993، إلى أن جاء التوقيع على اتفاق السلام الأردني الإسرائيلي في العام التالي ١٩٩٤؛ هذه المستجدات والتطورات التي طرأت على خارطة الصراع العربي الإسرائيلي ساهمت في كسر الحواجز وأدت بدورها إلى انهيار حرمة الاتصال والتواصل والتعاون بين أي دولة عربية خليجية وإسرائيل، ولم تعد إسرائيل تشكل تهديدًا أمنيًا لأي منها.
وبالفعل فقد باشرت بعض الدول العربية الخليجية أو ربما كلها بإجراء الاتصالات وتبادل الزيارات بشكل سري في بعض الحالات وعلني في الكثير منها؛ كان أولها وأكثرها علانية وشفافية الاتصالات وتبادل الزيارات بين كبار المسؤولين القطريين والإسرائيليين، وفتح “مكتب التجارة الإسرائيلي” في الدوحة في العام 1996 خلال الزيارة التي قام بها للدوحة رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك شمعون بيريز (أغلق المكتب بعد ذلك بأربع سنوات).
وكانت مسقط الوجهة المفضلة بين الدول الخليجية لزيارة رؤساء الوزراء الإسرائيليين؛ إذ زارها رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحق رابين العام 1994 بعد توقيع اتفاقية أوسلو مع الفلسطينيين، ثم زارها في العام 1996 شمعون بيريز رئيس الوزراء آنذاك الذي وقع أثناء زيارته على اتفاقية افتتاح “مكتب تمثيل تجاري متبادل” لإسرائيل في مسقط (أغلق رسميًا في العام 2000 أيضًا) كما زارها رئيس الوزراء الحالي بنجامين نتنياهو في العام 2018 والتقى خلالها بجلالة السلطان قابوس بن سعيد (رحمه الله).
وفي تزامن لافت؛ فإن الأمر الآخر الذي لا يقل خطورة أو تهديدًا لأمن واستقرار الدول العربية الخليجية، والذي ساهم في دفع هذه الدول إلى الاتصال والتواصل والتعاون مع إسرائيل وإلى قيام مملكة البحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة في نهاية المطاف بإقامة علاقات دبلوماسية معها، هو أن الولايات المتحدة وهي الحليف العسكري والمساند الأمني لدول المجلس كانت قد بدأت بالتلويح والتنويه، (قبل الغزو الروسي لأوكرانيا) بأن تركيزها الاستراتيجي لم يعد في منطقة الخليج العربي بل انتقل إلى مواقع أخرى مواجهة لمصدر التحدي الأكبر بالنسبة لها وهي الصين، إضافة إلى ذلك فإن الكثير من الساسة والمحللين السياسيين الأميركيين أكدوا، قبل الغزو الروسي لأوكرانيا أيضًا، أن الدول العربية الخليجية قد فقدت الكثير من أهميتها بالنسبة للولايات المتحدة بعد تمكن الأخيرة من إنتاج احتياجاتها النفطية من دون الاعتماد على دول الخليج.
في هذه الأثناء ازدادت حدة التحديات والمخاطر الأمنية التي تواجهها الدول العربية الخليجية الناتجة عن الغزو الأميركي للعراق وانبعاث المليشيات والجماعات والحركات الإرهابية المسلحة مثل “داعش” وغيرها.
في الوقت ذاته، فقد أخذت إيران في تنمية إمكاناتها العسكرية وتطوير قدراتها وأسلحتها الصاروخية وأخذت تقترب من امتلاك الطاقة النووية، إلى جانب ترسيخ وتوطيد علاقاتها وروابطها الاستراتيجية مع روسيا التي شملت العديد من المجالات العسكرية والأمنية إضافة إلى علاقات مشابهة ربطت إيران استراتيجيًا بالصين. وبذلك لم تعد أي من روسيا أو الصين بديلًا أو خيارًا محتملًا للشراكة الاستراتيجية الأمنية للدول العربية الخليجية في مواجهتها لتهديدات النظام الإيراني.
هذه المعطيات والجوانب من التطورات أصبحت تشكل تهديدًا واقعيًا يُعرض الدول العربية الخليجية إلى انكشاف أمني خطير وجعلت من إمكانات التعاون والتحالف مع إسرائيل الخيار الوحيد المتوافر أمامها؛ إسرائيل الدولة النووية الوحيدة في المنطقة والتي كانت وقتها تتمتع بسمعة امتلاكها لقوة عسكرية لا تقهر وإمكانات استخباراتية لا مثيل لها على وجه المعمورة، تلك السمعة التي عصف بها وجرفها طوفان الأقصى في السابع من شهر أكتوبر الماضي.
إن الذين يطالبون الدول العربية الخليجية بوقف خطوات التطبيع مع إسرائيل حرّكتهم، من دون أدنى شك، حسن نواياهم وعواطفهم وغيرتهم وغضبهم ونوازعهم القومية، مع أنهم لم يذكروا كيف أن هذه الخطوة، إذا ما اتخذت، سيكون لها أثر إيجابي ملموس على النتائج النهائية لهذه المواجهة الدائرة الآن بين حركة حماس وإسرائيل، أو كيف ستساهم في تمكين الفلسطينيين من تحقيق ما تبقى من حقوقهم المشروعة المسلوبة؟ أو من أي جانب ستخدم القضية الفلسطينية؟ مع العلم بأن كل الدول العربية عمومًا والخليجية بشكل خاص، ومنذ قيام إسرائيل، ولعقود طويلة كانت قد فرضت وضربت حصارًا محكمًا حول إسرائيل وعادتها وقاطعتها سياسيًا واقتصاديًا، إلى درجة أن أي شخص عربي يتصل أو يلتقي ولو صدفة بشخص إسرائيلي يعتبر خائنًا، ويعتبر ما قام به جريمة يعاقب عليها القانون، ثم هل حققت تلك المقاطعة أيًا من أهدافها، وهل استفاد أشقاؤنا الفلسطينيون وقضيتهم العادلة منها؟ وكيف ساهمت تلك المقاطعة في تحقيق أي جزء من حقوقهم المشروعة وطموحاتهم؟ بل العكس هو ما حدث؛ ففي فترة عنفوان المقاطعة واستمرارها تراجعت وتآكلت مساحة حقوقهم المشروعة، وتقلصت طموحاتهم ومطالباتهم إلى أدنى حد ممكن، وازدادت معاناتهم من الظلم والاستبداد، واستغلت إسرائيل المقاطعة لتستدر تعاطف قطاعات واسعة من مكونات المجتمع الدولي بادعائها بأنها دولة صغيرة محاطة بمحيط واسع من الأعداء الذين يحاصرونها ويقاطعونها ويعملون على القضاء عليها والقذف بشعبها في البحر، وتوسعت دائرة علاقاتها بمختلف دول العالم وازداد عدد الدول التّي اعترفت بها، إذًا لم تنفع المقاطعة سياسيا! ولم تنجح اقتصاديًا أيضًا؛ فعلى الرغم منها ظلت إسرائيل تتوسع وتنمو اقتصاديًا، واستمرّ ناتجها الإجمالي في الارتفاع، وأخذت تبني وتعزز من قواعدها العلمية والبحثية والإنتاجية، وتفوقت في مختلف مجالات التكنولوجيا والمنتجات المعدنية والمعدات الإلكترونية والأسلحة والمنتجات الزراعية والبرمجيات والاتصالات والموصلات المتطورة، وغيرها؛ إلى أن أصبحت اليوم تحتل المرتبة 16 بين 187 دولة على مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة؛ ولا غرابة في ذلك، فالمقاطعة بطبيعتها توفر لشعب الدولة المقاطَعة عناصر التحدي ودوافع التصدي وتستفز وتستنهض فيهم روح التصميم على البقاء والإنجاز.
إن ما حدث في يوم طوفان الأقصى في 7 أكتوبر الماضي وتداعياته، يضع الدول العربية الخليجية في موقف أقوى في قبالة إسرائيل، ويوفر الفرصة لها لإعادة النظر في كل تلك المعطيات والاعتبارات التي ذكرناها والتي فرضت وبررت قيامها بإنهاء معاداتها لإسرائيل والتواصل والتعاون معها وقيام البحرين والإمارات بتأسيس علاقات دبلوماسية معها، إلا أن ذلك لا يعني وسوف لن يؤدي إلى إجهاض مسيرة التطبيع الخليجية، الهادفة في الواقع إلى تحقيق توازن أمني رادع في المنطقة، وإرساء وتعزيز أسس الأمن والاستقرار والسلام فيها، بما يقود أيضًا إلى تمكين الدول العربية الخليجية من المساهمة في تحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، أو ما تبقى منها، بالوسائل السلمية وعن طريق الضغط والمفاوضات والحوار بين كافة الأطراف المعنية. وفي هذا الصدد فإن ثمة جهودا تبذل الآن بقيادة الولايات المتحدة للتوصل إلى حل للقضية الفلسطينية على أساس “حل الدولتين”، وإن أي نجاح أو تقدم في هذا الاتجاه سيكون من دون أدنى شك مرتبطا أو مقرونا أو بالأحرى مشروطا بقيام باقي الدول العربية الخليجية بتطبيع علاقاتها بإسرائيل، وهو أمر لا يتعارض وينسجم مع خطة السلام العربية التي أطلقها الملك عبدالله بن عبدالعزيز طيب الله ثراه في العام 2002م.