بقلم : عبدالنبي الشعلة
في إطار حرصي على الاتصال والتواصل مع أصدقائي ومعارفي في مختلف دول العالم، فقد اتصلت قبل أيام وبعد انقطاع طويل بصديق لي في موريشيوس اسمه آزاد دومن، وهو مسلم الديانة موريشيوسي الجنسية، إن صح التعبير، ربطتني به وبأسرته علاقة صداقة وثيقة منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي عندما كنت أتردد على موريشيوس في تلك الحقبة وحقبة التسعينات، والتقيت خلالها بعدد من المسؤولين فيها، وربطتني علاقة صداقة أيضا بالسيد/ غايتن دوفال نائب رئيس الوزراء ووزير السياحة آنذاك، والذي استضفته في البحرين في زيارة خاصة، وقد عَيّنت حكومة موريشيوس لاحقًا آزاد دومن سفيرًا متجولًا لها لدى دول مجلس التعاون.
ومن بين تلك الزيارات واحدة كنت فيها ضمن مجموعة من الأصدقاء ضمت الوزير السعودي الأسبق المرحوم خالد بن محمد القصيبي، ورجل الأعمال البحريني إبراهيم بن إسحاق عبدالرحمن رحمه الله، وصديق العمر حسن بن محمد زين العابدين أطال الله عمره، وقد زرنا في تلك الجولة السياحية أيضًا جزيرة مدغشقر ودولة جنوب أفريقيا.
موريشيوس جزيرة أفريقية صغيرة، لا تحتوي بطون أراضيها على اي من الموارد الطبيعية مثل النفط أو الغاز أو المعادن، إلا أنها أصبحت أغنى أو من بين أغنى دول أفريقيا رغم اعتمادها على الزراعة وتصدير المنتجات الزراعية المصنعة وعلى السياحة، مع التزامها بتنمية السياحة النظيفة واستقطاب صفوة السياح، الذين يوفرون موارد دخل مجزية لخزينة الدولة، وفوق وقبل كل ذلك اعتمادها على الإنسان بعد اعداده وتنميته.
إن خطط تنمية وإعداد الإنسان في موريشيوس ترتكز أساسًا على التعليم، والدولة تهتم بالتعليم وتحرص على ضمان جودته والارتقاء بمستواه، وتوفره لكل مواطنيها مجانا حتى نهاية المراحل الجامعية، ولا تفتح موريشيوس المجال للتعليم الخاص فيها، لأنها ترفض اعتبار التعليم سلعة يحصل عليها الطالب مقابل مبلغًا من المال، وتنفر مما اسمته “التجارة في التعليم” وكذلك الحال بالنسبة للرعاية الصحية.
في موريشيوس يصرون على مركزية التعليم للارتقاء بأداء الأمة؛ التعليم ثم التعليم ثم التعليم؛ انطلاقًا من إيمانهم بضرورة توفير التعليم الصحيح وإلا فإن مخرجاته ستكون قاصرة أو معاقة أو فاسدة لا تصلح أو غير قادرة على إدارة عجلات العمل والإنتاج والتقدم والنمو، وإن انحطاط أو تدني مستوى التعليم سيؤدي بلا شك إلى انحطاط وتخلف المجتمع.
إن موريشيوس تتبنى نظام الحكم الديمقراطي العلماني؛ فهي تحترم وتقدر كل الأديان ولا تحاربها، ولا تشجع الإلحاد، لكنها تصر على تطبيق مبدأ “فصل الدين عن الدولة” وعدم السماح لرجال الدين بالتدخل في شؤون الحكم والإدارة والحياة.
ويشكل المسلمون في موريشيوس أقلية بنسبة 17 % فقط من المواطنين؛ مع ذلك فقد تربع على كرسي الرئاسة فيها رؤساء مسلمون لأكثر من مرة، كان أهمها وأبرزها اختيار الشعب الدكتورة المسلمة أمينة غريب فقيم وانتخابها رئيسة للجمهورية في العام 2015 نتيجة لاسهاماتها ومكانتها العلمية المرموقة على المستوى العالمي وهي التي ألفت أكثر من 20 كتابا و 8 بحوث في علم الأحياء، فكانت بذلك أول سيدة تتقلد هذا المنصب الرفيع في القارة الأفريقية؛ ونتيجة لهذه السياسات والممارسات فقد ساد التعايش والتفاهم والتعاون والسلام والاستقرار المجتمع في موريشيوس، وبلغ متوسط دخل الفرد فيها 19600 دولار في العام وهو الأعلى في القارة الأفريقية، وأصبح الإنفاق العسكري والأمني يقع في أسفل أو على هامش ميزانيات الدولة؛ فالإنفاق موجه إلى التعليم والصحة والخدمات الأخرى، وصار 90 % من مواطني موريشيوس يسكنون في منازل مملوكة لهم.
وللأسف الشديد فقد انزلقت الدكتورة أمينة غريب فقيم إلى هاوية الفساد، وتورطت في فضيحة مالية أثناء تقلدها لمنصب الرئاسة أجبرتها على الاستقالة والتنحي قبل إتمامها للمدة القانونية المقررة؛ فبعد ان انضمت في العام 2015 إلى “معهد كوكب الأرض” وهو منظمة غير حكومية مقرها لندن تسعى إلى تطوير القدرات العلمية في إفريقيا؛ قدم لها المعهد بطاقة مصرفية لاستخدامها لدفع مصاريف وتكاليف أنشطة وبرامج خاصة بالمعهد، إلا أنها استخدمتها في شراء مقتنيات شخصية وكماليات شملت مجوهرات وأحذية وبضائع فاخرة بقيمة 25 ألف يورو على أقل تقدير، ورغم أن هذا المبلغ لا يخص الدولة ولا علاقة له بخزانتها فإن شعب موريشيوس لم يتردد عن إزاحتها أو طردها من موقعها فور نشر تفاصيل الفضيحة.
من هذا المشهد كله نستطيع بكل سهولة أن نستخلص ونرسخ التأكيد على أن الرقي والتقدم والازدهار للدول والأمم لا تحققه سعة المساحة ولا وفرة الأموال والموارد الطبيعية، بل يحققه استتباب الأمن والاستقرار، والتخطيط، والإدارة السليمة، والالتزام بالقيم والأولويات، والاهتمام بالإنسان، والتركيز على التعليم والتصدي للفساد ومحاربته.
إن الالتزام بهذه القيم والمبادئ والممارسات تؤدي دون أدنى شك إلى تحقيق التقدم والنمو والازدهار للدول، والرقي والرخاء لشعوبها، وإن قصة نجاح سنغافورة مع افتقارها لسعة المساحة وانعدام الموارد الطبيعية مثال آخر، وهي قصة معروفة للجميع، إلا أن قصة نجاح راواندا تؤكد أن الالتزام بتلك المبادئ والقيم والممارسات تحقق المعجزات للشعوب والدول.
فقد انشغل الضمير الإنساني ولمدة أربعة أعوام من العام 1990 إلى 1994 بمتابعة الحرب الأهلية الدائرة في راوندا بين أكبر قبيلتين فيها، وهما قبيلتا الهوتو والتوتسي وما سببته تلك الحرب من خراب ودمار واقتتال ومجازر وإبادة جماعية راح ضحيتها قرابة مليون من عدد السكان البالغ 12 مليون نسمة.
جمهورية راوندا كانت مستعمرة بلجيكية إلى أن نالت استقلالها في العام 1962 وهي صغيرة المساحة مغلقة جغرافيا بدون أي منفذ بحري، تفتقر إلى الموارد الطبيعية ويعتمد اقتصادها على الزراعة والرعي، وكان 92 % من قوتها العاملة تعمل في هذين القطاعين.
لقد خرجت راوندا من الحرب الأهلية في العام 1994 منهكة مفلسة ومنهارة اقتصاديًا، غارقة في بحر من الدمار واليأس والبؤس والإحباط لكن الأقدار هيأت لها على الفور قائدًا نزيهًا حكيمًا،بول كاغامي، الذي بادر بتجفيف دموعها وتضميد جراحها وانتشالها من أوحال اليأس؛ فاستجمع قواها وإرادة شعبها واستعان بقيم العدالة والمساواة، والتزم بمبادئ التخطيط والإدارة السليمة وتصدى للفساد وركز على محاربة الفقر ورفع مستوى التعليم والخدمات الصحية بحيث أصبح 44 % من ميزانية الدولة للتعليم والخدمات الصحية، وتم تنقيح المناهج التعليمية وإزالة كل ما يدعو فيها إلى العنصرية والقبلية، مع الاهتمام بتعليم المهارات التقنية الضرورية، وتأهيل الإنسان واعداده، فساد السلام واستتب الأمن والاستقرار في البلاد، وأصبحت راوندا أولى الدول الأفريقية جذبًا لرجال الأعمال ومن بين أهم الدول جذبًا للاستثمار، وصارت راوندا عاصمة السياحة الأفريقية، وصُنفت العاصمة كيغالي كأجمل مدينة في أفريقيا في عام 2015، ونما ناتجها المحلي بمعدل 9 % سنويًا بين 2000 و 2015 فكان الأكثر نموًا في أفريقيا، وخلال خمس سنوات بعد الحرب ارتفع إنتاج القهوة على سبيل المثال من 30 ألف طن إلى 15 مليون طن، والسياحة نمت بنحو 34 %،
وأصبحت راوندا تحتل الآن المركز السابع بين دول العالم في النمو الاقتصادي، وفي المركز 22 في ريادة الأعمال، وتضاعف معدل دخل الفرد ثلاث مرات في السنوات الأخيرة، انه انجاز حققته دول صغيرة المساحة عديمة الموارد الطبيعية مثل سنغافورة وموريشيوس؛ وبامكان أي دولة تحقيقه إذا التزمت بقيم العدالة والمساواة والشفافية ومحاربة الفساد.